سورة إبراهيم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ} يا محمد {إلى الذين بدَّلوا} شكر {نعمةَ الله كفراً}؛ بأن وضعوا الكفر مكان الشكر، أو: بدلوا نفس النعمة كفراً؛ فإنهم لما كفروها سُلبت منهم، فصاروا تاركين لها مُحصلين للكفر مكانها؛ كأهل مكة، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه السلام، وأسكنهم حَرَمه، وجعلهم خُدَّام بيته، وَوَسَّع عليهم أبواب رزقه، وعطف عليهم قلوب خلقه، وتمم شرفهم ببعْثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك، فقحطوا، وجاعوا حتى أكلوا الميتة، وأُسروا وقُتلوا يوم بدر، وصاروا كذلك مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر؛ وعن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: أنها نزلت في الأفجريْن من قريش: بني المغيرة، وبني أمية؛ فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين. {وأحَلَّوا قومَهم}: من أطاعهم في الكفر والتبديل، أي: أنزلوهم {دارَ البوار}: دار الهلاك، بحملهم على الكفر معهم، ثم فسرهم بقوله: {جهنم يصلونها}: يحترقون فيها، و{بئس القرارُ}؛ وبئس المستقر جهنم.
ثم بيَّن كفرهم، فقال: {وجعلوا لله أنداداً}: أشباهاً وأمثالاً، يعبدونها معه، {ليُضِلوا عن سبيله}؛ عن طريق التوحيد، أي: لتكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال، على القراءتين، أي: ليضلوا في أنفسهم، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال كان غرضهم في اتخاذ الأنداد، ولكن لمَّا كان نتيجته وعاقبته جُعل كالغرض. {قل تمتعوا} بشهواتكم الدنيوية، فإنها فانية، أو بعبادتكم الأوثان، فإنها من قبيل الهوى والأمر للتهديد. وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب؛ لإفضائه إلى المهدد به، وان الأمرين كائنان لا محالة، فلا بد من وقوع تمتعهم، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله: {فإنَّ مصيرَكم إلى النار}، وأن المخاطب، لانهماكه فيه، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
الإشارة: ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس من تبعه دار البوار، وهي: الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرض والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم: إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين: قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها» فقال له الشيخ: إنا لا نرى الإحسان إلا من الله، ولا نرى معه غيره. اهـ. بالمعنى.


قلت: {يُقيموا}: جواب شرط مقدر، يتضمنه قوله: {قل}، تقديره: إن تقل لهم أقيموا يقيموا، ومعمول القول، على هذا، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، أي: مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف؛ لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي: وقال ابن عطية: إلا إن ضمّن {قل} معنى: بلّغ أو أدَّ، فيصح أن يكون {يقيموا}: جواب أمره. و{سراً وعلانية}: حالان، أو ظرفان، ومن قرأ: {لا بيع} بالبناء فقد بنى {لا} مع اسمها بناء للتركيب، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
يقول الحق جل جلاله: {قل لعباديَ الذين آمنوا}، خصهم بالإضافة إليه؛ تشريفاً لم، وتنويهاً بقدرهم، وتنبيهاً على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد: {يُقيموا الصلاة} التي هي عنوان الإيمان، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها، {ويُنفقوا مما رزقناهم} من الأموال، فرضاً ونفلاً، {سراً وعلانيةً} أي: مُسرين ومعلنين، أو في سر وعلانية، والأحب: إعلان الواجب، وإخفاء المُتَطَوَّع به، إلا في محل الاقتداء لأهل الإخلاص. {من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه} فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو ما يفدي به نفسه، {ولا خلالٌ}: ولا مخاللة ومودة تنفع في ذلك اليوم، حتى ينفع الخليلُ خليلَه، وإنما العملُ الصالح، كالإنفاق لوجه الله، وإقام الصلاة، وغير ذلك.
الإشارة: قد مدح الله هاتين الخصلتين: الصلاة والإنفاق، وأمر بهما في مواضع من القرآن؛ لأنهما عنوان الصدق، أحدهما، عمل بدني، والآخر: عمل مالي. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب، واستفتاح لباب الغيوب، وهي محل المناجاة ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتُشرق فيها شوارق الأنوار، كما في الحِكَم. وفي بعض الأخبار: (إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحُجُبَ بينه وبينه، وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء، يُصلون بصلاته، ويُؤَمَّنُونَ على دعائه، وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد: لو يعلم المناجي من يناجي ما انفتل). وإن أبواب السماء لتفتح للمصلي. وإن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين. وفي التوراة: يا ابن آدم لا تعجز ان تقوم بين يَدَيَّ مصلياً باكياً، فأنا الذي اقتربتُ من قلبك، وبالغيب رأيتَ نوري. اهـ. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء، وتلك الفتوح التي يجدها المصلي في قلبه من دنو الرب من القلب.
وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها، وفي الحديث: «الصَّدقةُ بُرْهانٌ» فهي تدل على خروج حب الدنيا من القلب، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء، التي هي أفضل الخصال، وفي الحديث: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ من النَّاس قريبٌ من الجَنَّةِ، بَعِيدٌ من النارِ، والبَخِيلُ بَعيدٌ من اللهِ، بَعِيدٌ من النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ من النَّارِ، ولجَاهلٌ سَخِيٌ أَحَبُ إلى اللهِ من عَالمٍ بخيلٍ».


قلت: {الله}: مبتدأ، و{الذي}، وما بعده: خبر، و{رزقاً لكم}: مفعول أخرج، و{من الثمرات}: بيان له، حال، ويجوز العكس، ويجوز أن يراد بالرزق: المصدر، فينصب على العلة أو المصدر؛ لأن (أخرج) فيها معنى {رَزَقَ}، و{دائبينْ}: حال، والدؤوب: الدوام على عمل واحد، و{من كل ما سألتموه}: يحتمل أن تكون {ما} مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة.
يقول الحق جل جلاله: {اللهُ الذي خلق السماوات والأرض} من أجلكم، السماء تُظلكم، والأرض تُقلكم، {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمراتِ رزقاً لكم}، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس، كالقطن، والكتان، وشبه ذلك {سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره}: بمشيئته وقدرته، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته، تغطية لقدرته، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها، من الجبال والقلاع، {وسخّر لكم الأنهار} مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب، وسائر منافعها، فجعلها مُعدَّة لا نتفاعكم وتصرفكم. وقيل: تسخير هذه الأشياء: تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
{وسخَّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين}؛ متماديين في الطلوع والغروب، يدأبان في سيرهما وإنارتهما، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات، بقدرة خالقهما، {وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ} يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. {وآتاكم من كل ما سألتموه} أي: وآتاكم بعض جميع ما سألتموه، وهو ما يليق بكم، وما سبق لكم في مشيئته وعلمه. قال البيضاوي: ولعل المراد بما سالتموه: ما كان حقيقياً بأن يسأل؛ لاحتياج الناس إليه، سُئل أو لم يسأل. اهـ. وقرأ الضحاك وابن عباس: {من كُلِّ}؛ بالتنوين، أي: وآتاكم من كل شيء احتجتم إليه، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون {ما} نافية، في موضع الحال، أي: وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
{وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها}: لا تحصوها، ولا تطيقوا عدَّ أنواعها، فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية؛ فمنها ظاهرة، ومنها باطنة، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمة أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين. اهـ. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه. اهـ. {إنَّ الإنسانَ لظلوم}؛ بظلم النعمة لمَّا غفل عن شكرها، أو بظلم نفسه لمَّا عرضها للحرمان، بارتكاب المعاصي، {كفارٌ}: شديد الكفران، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفّار في النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس، ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره.
وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لأصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه، ونهار البسط، (لا تدرون أيهم أقرب نفعاً). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إن الإنسان لظلوم كفار، وشكرها: نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم: (لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك).
قال سهل بن عبد رضي الله عنه: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال: إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7